فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
هذا الكلام عائد إلى قوله: {والذين ءامنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} [العنكبوت: 52] تعجيبًا من نقائض كفرهم، أي هم كفروا بالله وإن سألهم سائل عمن خلق السماوات والأرض يعترفوا بأن الله هو خالق ذلك ولا يثبتون لأصنامهم شيئًا من الخلق فكيف يلتقي هذا مع ادعائهم الإلهية لأصنامهم.
ولذلك قال الله {فأنى يؤفكون} أي كيف يصرفون عن توحيد الله وعن إبطال إشراكهم به مالا يخلق شيئًا.
وهذا الإلزام مبني على أنهم لا يستطيعون إذا سئلوا إلا الاعتراف لأنه كذلك في الواقع ولأن القرآن يتلى عليهم كلهما نزل منه شيء يتعلق بهم ويتلوه المسلمون على مسامعهم فلو استطاعوا إنكار ما نُسب إليهم لصدعوا به.
وضمير جمع جمع الغائبين عائد إلى الذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله واستعجلوا بالعذاب بقرينة قوله: {فأنى يؤفكون}.
والاستفهام في قوله: {فأنى يؤفكون} إنكار وتعجيب.
وتخصيص تسخير الشمس والقمر بالذكر من بين مظاهر خلق السماوات والأرض لما في حركتهما من دلالة على عظيم القدرة، مع ما في ذلك من المنة على الناس إذ ناط بحركتهما أوقات الليل والنهار وضبط الشهور والفصول.
وتسخير الشيء: إلجاؤه لعمل شديد.
وأحسب أنه حقيقة سواء كان المسخّر-بالفتح- ذا إرادة كان جمادًا.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} في سورة الأعراف (54).
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لمَنْ يَشَاءُ منْ عبَاده وَيَقْدرُ لَهُ إنَّ اللَّهَ بكُلّ شَيْءٍ عَليم (62)}.
هذا إلزام آخر لهم بإبطال شركهم وافتضاح تناقضهم فإنهم كانوا معترفين بأن الرازق هو الله تعالى: {قل مَن يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} إلى قوله: {فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} في سورة يونس (31).
وإنما جاء أسلوب هذا الاستدلال مخالفًا لأسلوب الذي قبله والذي بعده فعدل عن تركيب {ولئن سألتهم} [العنكبوت: 61] تفننًا في الأساليب لتجديد نشاط السامع.
وأدمج في الاستدلال على انفراده تعالى بالرزق التذكير بأنه تعالة يرزق عباده على حسب مشيئته دليلًا على أنه المختار في تصرفه وليس ذلك على مقادير حاجاتهم ولا على ما يبدو من الانتفاع بما يُرزقونه.
وبسط الرزق: إكثاره، وقَدْره: تقليله وتقتيره.
والمقصود: أنه الرازق لأحوال الرزق، وقد تقدم في قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} في سورة [الرعد: 26].
فجاءت هذه الاية على وزان قوله في سورة {أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} [الروم: 27] فجمع بين ضمير المشركين في أولها وبين كون الآيات للمؤمنين في آخرها.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {الله يبسط الرزق} لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يبسط الرزق ويقدر.
والتعبير بالمضارع لإفادة تجدد البسط والقدر.
وزيادة {له} بعد {ويقدر} في هذه الآية دون آية سورة الرعد وآية الققصص للتعريض بتبصير المؤمنين الذين ابتلوا في أموالهم من اعتداء المشركين عليها كما أشار غليه قوله آنفًا: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} [العنكبوت: 60] بأن ذلك القَدْر في الرزق هو لهم لا عليهم لما ينجر لهم منه من الثواب ورفع الدرجات، فغُلّب في هذا الغرض جانب المؤمنين ولهذا لم يُعدّ {يقدر} بحرف على كما مقتضى معنى القدر كما في قوله تعالى: {ومن قُدر عليه رزقُه فلينفقْ مما ءتاه الله} [الطلاق: 7].
وقال بعض المفسرين: إن المشركين عيروا المسلمين بالفقر، وقيل: إن بعض المسلمين قالوا: إن هاجرنا لم نجد ما ننفق.
والضمير المجرور باللام عائد إلى {من يشاء من عباده} باعتبار أن {من يشاء} عام ليس بشخص معين لاسيما وقد بيّن عمومه بقوله: {من عباده}.
والمعنى: أنه يبسط الرزق لفريق ويقدر لفريق.
والتذييل بقوله: {إن الله بكل شيء عليم} لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يطلع عليها الناس، وأن الله يعلم صبر الصابرين وجزع الجازعين كما تقدم في قوله في أول السورة: {فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت: 3] ، قال تعالى: {لَتُبلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا وإن تَصْبروا وتتقوا فإنَّ ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186].
{وَلَئن سَأَلْتَهُم مَّن نَزَّلَ منَ السَّمَاء مَاءً فأَحيَا به الأَرْضَ من بَعْد مَوْتهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ}.
أعيد أسلوب السؤال والجواب ليتصل ربط الأدلة بعضها ببعض على قرب.
فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم.
وأدمج ف الاستدلال عليهم بانفراده تعالى بإنزال المطر أن الله أحيا به الأرض بعد موتها وإن كان أكثر المشركين ينسبون المسببات غلى أسبابها العادية كما تبين في بحث الحقيقة والمجاز العقليين في قولهم: أنبت الربيع البق، أنه حقيقة عقلية في كلام أهل الشرك لأنهم مع ذلك لا ينسبون الإنبات إلى اصنامهم، وقد اعترفوا بأن سبب الإنبات وهو المطر منزل من عند الله فيلزمهم أن الإنبات من الله على كل تقدير.
وفي هذا الإدماج استدلال تقريبي لإثبات البعث كما قال: {فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} [الروم: 50] وقال: {ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} [الروم: 19].
ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضيًا للتأكيد بزيادة {من} في قوله: {من بعد موتها} إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم فلذلك لم يكن مقتضى لزيادة {من} في آية البقرة، وفي الجاثية (5) {فأحيا به الأرض بعد موتها} وقد أشار قوله: {من بعد موتها} إلى موت الأرض، أي موت نباتها يكون بإمساك المطر عنها في فصول الجفاف أو في سنين الجدب لأنه قابله بكون إنزال المطر لإرادته إحياء الأرض بقوله: {فأحيا به الأرض} فلا جرم أن يكون موتها بتقدير الله للعلم بأن موت الأرض كان بعد حياة سبقت من نوع هذه الحياة، فصارت الآية دالة على أنه المتصرف بإحياء الأرض وإماتتها، ويعلم منه أن محيي الحيوان ومميته بطريقة لحن الخطاب.
فانتظم من هذه الآيات المفتتحة بقوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض} [العنكبوت: 61] إلى هنا أصول صفات أفعال الله تعالى وهي: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، من أجل ذلك عقيب بأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده بكلام يدل على تخصيصه بالحمد.
{قُل الْحَمْدُ لله بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَعْقلُونَ} لما اتضحت الحجة على المشركين بأن الله منفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ولزم من ذلك أن ليس لأصنامهم شرك في هذه الأفعال التي هي اصول نظام ما على الأرض من الموجودات فكان ذلك موجبًا لإبطال شركهم بما لا يستطيعون إنكاره ولا تأويله بعد أن قرعت أسماعهم دلائله وهم واجمون لا يبدون تكذيبًا فلزم من ذلك صدقُ الرسول عليه الصلاة والسلام فيما دعاهم إليه.
وكَذبثهم فيما تطاولوا به عليه في أمر الله ورسوله بأن يحمده على أن نصرهُ بالحجة نصرًا يؤذن بأنه سينصره بالقوة.
وتلك نعمة عظيمة تستحق أن يحمد الله عليها إذ هو الذي لقنها رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابه وما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان.
فهذا الحمد المأمور به متعلّقه محذوف تقديره: الحمد لله على ذلك.
وهو الحجج المتقدمة، وليس خاصًا بحجة إنزال الماء من السماء، وكذلك شأن القيود الواردة بعد جعل متعددة أن ترجع غلى جميعها، وكذلك ترجع معها متعلّقاتها-بكسر اللام- وقرينة المقام كنار على علَم، ألا ترى أن كل حجة من تلك الحجج تستأهل أن يحمد الله على إقامتها فلا تختص بالحمد حجة إنزال المطر فقد قال تعالى في سورة لقمان (25) {ولَئن سألتَهُم مَن خَلَقَ السَّماوات والأرضَ ليقولُنَّ الله قُلْ الحمدُ لله بَلْ أكثَرهُم لا يَعْلَمون} فلذلك لا يجعل قوله: {قل الحمد لله} اعتراضًا.
و{بل أكثرهم لا يعقلون} إضراب انتقال من حمد الله على وضوح الحجج إلى ذم المشركين بأن أكثرهم لا يتفطنون لنهوض تلك الحجج الواضحة فكأنهم لا عقل لهم لأن وضوح الحجج يقتضي أن يفطن لنتائجها كلُّ ذي مُسكة من عقل فنزلوا منزلة من لا عقول لهم.
وإنما أسند عدم العقل إلى أكثرهم دون جميعهم لأن من عقلائهم وأهل الفطن منهم من وضحت له تلك الحجج فمنهم من آمنوا، ومنهم من أصرّوا على الكفر عنادًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
يقول تعالى للذين لا تكفيهم آية القرآن التي نزلت على رسول الله، ويطلبون منه آيات أخرى، يقول لهم: لقد جعل الله لكم الآيات في الكون قبل أنْ يرسل الرسل، آيات دالة على الإعجاز في السماوات وفي الأرض، فهل منكم مَنْ يستطيع أنْ يخلق شيئًا منها مهما صَغُر؟
إن خلق السماوات والأرض معجزة كونية لا تنتهي، فلماذا تطلبون المزيد من الآيات، وما جعلها الله إلا لبيان صدْق الرسل في البلاغ عن الله ليؤمن الناس بهم.
لذلك يقول سبحانه في الرد عليهم: {هذا خَلْقُ الله فَأَرُوني مَاذَا خَلَقَ الذين من دُونه} [لقمان: 11] فخلْق السماوات والأرض والشمس والقمر إعجاز للدنيا كلها، وخصوصًا الكفرة فيها.
ومسألة الخَلْق هذه من الوضوح بحيث لا يستطيع أحد إنكارها- كما سبق أنْ أوضحنا- لذلك يقولون هنا في إجابة السؤال {لَيَقُولُنَّ الله} [العنكبوت: 61] وهذا الاعتراف منهم يستوجب من المؤمن أنْ يحمد الله عليه، فيقول: الحمد لله أن اعترفوا بهذه الحقيقة بأنفسهم، الحمد لله الذي أنطقهم بكلمة الحق، وأظهر الحجة التي تبطل كفرهم.
وقوله تعالى: {فأنى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] أي: كيف بعد هذا الاعتراف ينصرفون عن الله، وينصرفون عن الحق؟
{الله يَبْسُطُ الرزق}.
{يَبْسُطُ الرزق} [العنكبوت: 62]: يُوسّعه، {وَيَقْدرُ} [العنكبوت: 62] يعني يضيق، وآفة الناس في هذه المسألة أنهم لا يفسرون الرزق إلا بالمال، والرزق في الواقع كل ما ينتفع به الإنسان، فالعلم رزق، والحلم رزق، والجبروت رزق، والاستكانة رزق، وإتقان الصَّنْعة رزق. إلخ.
والله سبحانه يُوسّع الرزق لمَنْ يشاء، ويُضيّقه على مَنْ يشاء، فالذي ضُيّق عيه يحتاج لمن بسط له، وكذلك يبسط الرزق في شيء ويُضيّقه في شيء آخر، فهذا بسط له في العقل مثلًا، وضيق عليه في المال.
فكأن الحق- سبحانه وتعالى- نثر مواهب الملكات بين خَلْقه، لم يجمعها كلها في واحد، وسبق أن أوضحنا أن مجموع الملكات عند الجميع متساوية في النهاية، فَمنْ بُسط له في شيء ضُيّق عليه في آخر؛ ليظل المجتمع مربوطًا برباط الاحتياج، ولا يستغني الناس بعضهم عن بعض، وحتى تتكامل المواهب بين الناس، فتساند لا تتعاند.
إذن: فالحق- سبحانه وتعالى- حين يبسط الرزق لعبد، ويَقْدره على آخر، لا يعني هذا أنه يحب الأول ويكره الآخر، ولو نظرتَ إلى كل جوانب الرزق وزوايا العطاء لوجدتها متساوية.
وحين نتأمل قوله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسمُونَ رَحْمَتَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعيشَتَهُمْ في الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] فأيُّ بعض مرفوع؟ وأيُّ بعض مرفوع عليه؟ الكل مرفوع في جهة اختصاصه، ومرفوع عليه في غير جهة اختصاصه، إذن: فالجميع سواء.
وسبق أنْ ضربنا مثلًا لهذه القضية. وقلنا: إن العظيم الذي يسكن القصر يحتاج إلى العامل البسيط الذي يصلح له دورة المياه، وينقذه من الرائحة الكريهة التي يتأفف منها، فيسعى هو إليه ويبحث عنه، وربما ذهب إليه في محل عمله وأحضره بسيارته الفارهة، بل ويرجوه إنْ كان مشغولًا.
ففي هذه الحالة، ترى العامل مرفوعًا على الباشا العظيم، فلا يظهر الرفع إلا في وقت الحاجة للمرفوع.
وأيضًا لو لم يكُنْ بين الناس غني وفقير، مَنْ سيقضي لنا المصالح في الحقل، وفي المصنع، وفي السوق. إلخ لابد أنْ تُبنى هذه المسائل على الاحتياج، لا على التفضُّل. إذن: إنْ أردت أن تقارن بين الخَلْق فلا تحقرنَّ أحدًا؛ لأنه قد يفضل عليك في موهبة ما، فتحتاج أنت إليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَئن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ منَ السماء}.
وهنا أيضًا قالوا {الله} لأن إنزال المطر من السماء وإحياء الأرض به بعد موتها آية كونية واضحة لم يدَّعها أحد، فهي ثابتة لله تعالى، لا يُنكرها أحد حتى الكافرون، فلئن سألتهم هذا السؤال {لَيَقُولُنَّ الله} [العنكبوت: 63] لذلك يأمرنا الحق سبحانه بأن نقول بعد هذا الإقرار {قُل الحمد للَّه} [العنكبوت: 63] الذي أنطقهم بالحق، وأقام عليهم الحجة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقلُونَ} [العنكبوت: 63] لأنهم أقرُّوا بآيات الله في خَلْق الكون، ومع ذلك كفروا به. اهـ.